منذ بدأتُ تكوين وعيي عن هذه الدنيا، وهذا الدين، وأنا أشهدُ الموقف التالي مكرراً في كلِّ مرة: أحدُ المغمورين تماماً يتعرض بالتطاول على الإسلام أو أحد رموزه، أو على محمد - صلى الله عليه وسلم - (ويُفترض، على أيّ نبي)؛ فتنتابُ العالم الإسلاميّ عموماً نوبةٌ من القشعريرة وكثيرٌ من الحماس ينتهي بإباحة دم ذلك المغمور والإفتاء بوجوب قتله، وتقديم الكثير جداً من الدعاية المجانية لأعماله المدفونة، وحث المزيد من دعاة "حرية الرأي والتعبير اللامشروطة" على إنتاج المزيد من الأعمال والحركات الاستفزازية المشابهة، واحتفاء وتكريم دولي واسع جداً لذلك الشخص لثباته على حقه في التعبير ووقوفه صامداً في وجه "همجية" كل أولئك المسلمين الذين سعوا للتصدي له.
من زمن سلمان رشدي أتحدث؛ سلمان تعدى في "آياته الشيطانية" على حرمة بيت المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ونعته بأقبح الصفات، وروى العجائب والأكاذيب. أهدر آية الله الخميني دمه، وقلّدته الملكة إليزابيث الثانية وسام الفروسية؛ لشجاعته، في ذلك الزمان.
كيف لي الآن أن أقنع العالم أنّ ما يأتي به هؤلاء ليس من الإسلام في شيء؟ كيف لي أن أقول أنّ الإسلام هو دين التسامح والمودة وأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - تحمل الأذى من قبيلته وأهله ومن العرب والعجم طوال ثلاثةٍ وعشرين عاماً دون أن ينتفض لحقٍّ شخصيٍّ أو من أجل إهانةٍ وُجّهت له؟ كيف لي أن أتغنى بإحدى أجمل الآيات القرآنية والأوامر الربانية أن: "وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ" - أعرض عنهم، غادر المجلس، حاججهم، أما أن تقتلهم؟! كيف لي أن أقتبس سيرة المصطفى ورحمته وهديه من "الرحيق المختوم"، وسيرة ابن هشام، وكتب كارين أرمسترونج، وكل الجمال الذي قرأته وعرفته عنه لأيِّ أحد، بعد الآن؟
من يعتقد أن الدين الإسلامي هو دين إرهاب، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مِزواجاً، وأنه نشر الإسلام بالسيف، وأن عائشة - رضي الله عنها - قد ارتكبت الفاحشة - حاشاها - سيستمرّ في كتابة ورسم وتصوير كلّ ذلك ما دام معتقداً به، وما دام فكره وثقافته يسمي كل هذه الأمور "حرية تعبير". قد يتوقف عن هذا التعبير فقط عندما يدرك الحقيقة التي ما زلنا مقصرين بطبيعة الحال في إيصالها وكشفها. ولو قتلنا كلَّ من "تطاول علينا" سيخرج أحدهم حتماً - كما خرج مارك زوكربيرج هذا الصباح - ويقول: "عبروا عن رأيكم كما شئتم في فضاء الفيس بوك الذي أتحته لكم، لا تهابوا أحداً، وأعدكم أنّ صوتكم سيبقى مسموعاً من خلالي أنا". ونعم، سيخرج مئات الناشطين الذين سيتعاطفون مع هؤلاء "الضحايا" ويطلقون الحملات التي تهتف باسمهم وتدعو إلى السير على نهجهم في ذم الدين (الذي دعا أئمته إلى قتلهم) كي يُثبتوا للعالم أجمع أنهم لا يهابون "إرهابنا".
لو صادفتَ رجلاً فقيراً معدماً وجلست معه، فرأيته يقضي الساعات الطوال وهو يحاول إقناعك أنه كان أغنى أغنياء الدنيا، وكان يمتلك عشرات القصور وأموالاً لا تأكلها النيران، ثم افتقر بين ليلةٍ وضحاها وغدا لا يملك شق تمرة؛ لكنه - في ذات الوقت - يملي عليك أن تعامله كما لو أنه أغنى أغنياء هذه البسيطة، وهو حتى لا يملك قوت يومه؛ فهل سترضى بذلك؟ لماذا إذاً نصرف الأيام والسنين في إقناع الأمم الأخرى أننا (إحم إحم، نحن) كنا أفضل الأمم، وأعدلها، وأنّ رسولنا كان كذا وكذا، وأنّ ديننا رحمة وتسامح وكذا وكذا، بينما حالُنا اليوم هو حال ملوك الطوائف في الأندلس في ذلك الزمان، وتشرذمنا وفقرنا الحضاري قد بلغ حده؛ كيف لنا أن نطالبهم أن يعاملوننا هكذا وأن لا "يدوسوا لنا على طرف" إن كانت أفعالنا وحالنا اليوم لا توحي بأيِّ شيءٍ مما كنا عليه في ذلك الزمان؟
الكلام لن يفيد شيئاً؛ إن لم ننهض ونُعِد أنفسنا إلى محراب الحضارة لن يكون من حقنا أن نطالب بأيِّ شيء. إن استطعنا إعادة مؤشر بوصلة الحضارة في اتجاهنا نحن - قولاً وفعلاً - عندها فقط، وفقط، ستغدو كلُّ الأمور الأخرى تحصيل حاصل. ولن يكون علينا أن نستجدي أيَّ أحد كي يصدق أيّ شيء.
لا يمكن أن نبرر أفعالهم تجاهنا، ولا يمكن أن نبرر قتلنا لهم، علينا باستئصال السبب، بقلب الآية، هذه مسؤوليتنا، وهذا واجبنا. لن ننتظر منهم أن يعرفوا أننا لسنا كذلك - إن كانت كلّ أفعالنا حقاً كذلك - علينا أن نريهم الحقيقة، على وجه اليقين.