(تُنشر بالتزامن مع موقع انكتاب: الصرخة.. آخر أعمال رضوى عاشور - بقلم ديانا نصار).
أولاً، أنا متحيزة. متحيزةٌ للسيدة ولجمالها وجمال رأيها (وكلاهما واحد)، متحيزةٌ لأدبها وكتاباتها وتجربتها، ولأسرتها الصغيرة الكبيرة، لكلِّ التفاصيل.
أولاً، أنا متحيزة. متحيزةٌ للسيدة ولجمالها وجمال رأيها (وكلاهما واحد)، متحيزةٌ لأدبها وكتاباتها وتجربتها، ولأسرتها الصغيرة الكبيرة، لكلِّ التفاصيل.
أن أقرأ الجزء الثاني من مقاطع سيرة السيدة بعد وفاتها هو في حدِّ ذاته أمرٌ مؤلم. فرضوى تمتلك، ولسببٍ ما، حميميةً عجيبة تجعل القارىء يرتبط بكتابتها وتجربتها بشكلٍ شخصيّ. لعلّه حرصها على مشاركة قرائها تفاصيلَ مؤلمة من رحلة علاجها، لعلّها سعة قلبها التي تجعل النصّ شبيهاً بجلسة فضفضة مع فنجان قهوةٍ صباحي، لا أعرف.
تحتاج لكثيرٍ من الجهد لتقنعني أنّ هذا النصّ الناضج العبقري كتبته سيدةٌ وهي تسترق الوقت القصير بين رحلات علاجٍ مضنيةٍ طويلة لانتزاع ورمٍ خبيثٍ ما انفكّ يعبث برأسها وينهكها. أنا أتساءل من الذي تعب أكثر: ذلك الورم، أم السيدة؟ رضوى أنهكت المرض، أنا أجزم.
ثمّ، ما كلّ هذا الحب لمصر؟ لا يمكنك أن تقرأ شيئاً عن حياة رضوى على لسانها دون أن تكون قد ربَطَته هي بجزءٍ من مصريّتها. في "أثقل من رضوى" والآن في "الصرخة"، تحمل رضوى عاشور همّ مصر، وشباب مصر، وثورة مصر، والقلق من وعلى مصر في حلّها وترحالها. لا تدّخر جهداً في الحديث عن ثورة الطلاب والجامعات المصرية؛ عن رواية قصص شبابٍ وشاباتٍ قضوا أجمل سنين العمر وراء القضبان، وفي الميادين، ينتفضون لأجل هذا البلد. رضوى عاشور تروي تلك القصص بحميميةٍ منقطعة النظير، وتُضمّنها سيرتها الذاتية؛ يشعرك هذا أنّ هؤلاء الشابات والشباب هم جزءٌ من قصة حياتها. لا يمكن لها أن تروي واحدةً دون الأخرى. يذهلني هذا الوفاء.
أكثر ما شدّني في هذا الجزء هو تسارعه وانسيابيته وعفويته الأنيقة. لعلّ رضوى أرادت أن تراجعه مرةً أو اثنتين قبل النشر. لعلها أرادت أن تضيف له المزيد من التفاصيل، أو تتخلى عن بعضها أو تعدّلها. لكنّ مفاجأة القدر قطعت ذلك الطريق عليها، وعلينا. فخرج النصّ في صورةٍ جدُّ بهيّة؛ لنا أن نقول عنها أنها "من القلب إلى القلب". تشعر بأنها سابقت المرض لتكتب وتروي كل ما يمكنها روايته ما دام القدر يمهلها مزيداً من الزمن. فتراها تكتب بشديد الامتنان عن أربع نساءٍ أثّرن في شخصيتها وتجربتها في مختلف مراحل حياتها؛ لكنها تتذكر بعد ذلك امرأةً خامسة، فتكتب عنها. عنونت ذلك الفصل "أربع نساء"، ارتأت أن لا تغير العنوان حتى لو تحدثت عن امرأةٍ خامسة فأبقته كما هو لأنه يعجبها! "أربع نساء" ويحكي عن خمس. تتبعه بفصلٍ تشعر أن القرّاء سيطالبون به لتحقيق التوازن والسيمتريّة: ضرورة أن تكتب عن رجالٍ أثّروا في مشوار حياتها. تفكر قليلاً ثم تقرر: لكني أريد أن أحكي عن جدّتي لأبي! وتفعل.
لا يمكن أن أكتب عن هذا النص دون أن أشير إلى جميل وفاء مريد وتميم البرغوثي - زوج السيدة وابنها - في نقل هذه الصفحات كما هي. دون أيّة إضافةٍ أو حذفٍ أو تعديل. تقرأ الفصل الثاني عشر، ليطالعك بعده الفصل الرابع عشر. تسأل أين ذهب الفصل الثالث عشر؟ المرض لم يمهل رضوى أن تكتبه. تماماً كما لم يمهلها كتابة الفصل الثامن عشر، والعشرين، والثالث والعشرين، وإتمام الرابع والعشرين، وإن كانت قد أرادت ذلك. فعنونت الفصول، أو تركت لها أوراقاً فارغة، أو كتبت بعض الحواشي والعناوين الصغيرة وتركتها لتعود لها لاحقاً، ولم تستطع. فكان أن ترك مريد وتميم الشكل كما هو؛ كما أرادت هي أن يكون. تصل تلك الصفحات الفارغة فتشعر بفضولٍ عجيب، وبأسىً غريب. أتمنى لو أتيح لي معرفة بقية الحكاية..
في الفصل الحادي والعشرين، فصل خبر التطور الأخير، اغرورقت عيناي بالدموع. لا أفهم كيف تمكنت رضوى من كتابة هذه التفصيلات الحزينة بكلِّ هذه الشجاعة وكل هذا الجمال. الدراما التي جسّدتها في معركة تميم التي بدأها وجنّد لها كل من يعرف ولا يعرف من أطباء ومختصين لعلّ أحدهم يشير عليهم برأيٍ مختلف، يمنحهم شيئاً من الأمل. هي ترى أن تميم قد اختار أن ينكر الواقع وأن لا يستسلم له، وهو يرى أنه لا يمكن له أن يرفع الراية البيضاء قبل أن يشمّر للقتال - ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. أفلت منها تصريحٌ برغبتها في العودة إلى التدخين، أيّد الطبيب الفكرة؛ استمتعي بحياتك (أو ما تبقى منها؟) كما تريدين. الآن وصلت الرسالة.
لماذا تصر رضوى عاشور رغم كل ذلك على أن تنهي كتاباتها دائماً بفسحة أمل؟ لم تحد عن هذه السُّنّة؛ فختمت النص بثلاث صفحاتٍ بهية، عن "سبوع بهيّة"؛ عن "سبوعٍ" احتفلوا فيه بثلاث بنات وُلدن واحدة تلو الأخرى في غضون أسابيع، وأرضعتهنّ نوارة نجم - والدة إحداهنّ - ليصبحن أخواتٍ في الرضاع. تُدخل تلك الصفحات بعض البهجة المتعمدة على قلب قارىء النص، إلى أن تأتي الحاشية الأخيرة التي أضافها مريد أو تميم عن تاريخ حفظ الملف الأخير على جهاز حاسوب رضوى عاشور، قبل أن تتوقف عن الكتابة في السابع من سبتمبر 2014، وترحل عن عالمنا في الثلاثين من نوفمبر من العام نفسه.
لا أحتمل فكرة أن يكون هذا النص هو الأخير.