قصيدة البردة هي من أشهر قصائد المدح النبوي التي كُتبت في المصطفى محمد - صلى الله عليه وسلم - إن لم تكن أفضلها. نظمها محمد بن سعيد البوصيري في القرن السابع الهجري الموافق للقرن الحادي عشر الميلادي. مطلعها: "أمن تذكّر جيرانٍ بذي سَلَمِ ... مزجتُ دمعاً جرى من مقلةٍ بدمِ".
وأشهر أبياتها، والذي أصبح كلازمةٍ يُعاد تلحينها كلما غنى أحدهم هذه القصيدة هو: "مولاي صلِّ وسلّم دائما أبداً ... على حبيبك خير الخلق كلّهم".
وسبب نظم هذه القصيدة عجيب؛ يقول فيه البوصيري: "كنتُ قد نظمتُ قصائد في مدح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، منها ما اقترحه عليّ الصاحب زين الدين يعقوب بن الزبير، ثم اتفق بعد ذلك أن داهمني الفالج (الشلل النصفي) فأبطل نصفي، ففكرتُ في عمل قصيدتي هذه فعملتها واستشفعت بها إلى الله في أن يعافيني، وكررت إنشادها، ودعوت، وتوسلت، ونمت فرأيت النبي فمسح على وجهي بيده المباركة، وألقى عليّ بردة، فانتبهت ووجدتُ فيّ نهضة، فقمت وخرجت من بيتي، ولم أكن أعلمت بذلك أحداً، فلقيني بعض الفقراء فقال لي: أريد أن تعطيني القصيدة التي مدحت بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت: أي قصائدي؟ فقال: التي أنشأتها في مرضك، وذكر أولها وقال: والله إني سمعتها البارحة وهي تنشد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأعجبته وألقى على من أنشدها بردة. فأعطيته إياها. وذكر الفقير ذلك وشاعت الرؤيا."
والبردة التي رآها البوصيري في منامه هي ذات البردة التي أهداها الرسول - صلى الله عليه وسلم - للشاعر زهير بن أبي سلمى، أبي كعب. ذلك أنه كان ممن اشتهر في الجاهلية ولما ظهر الإسلام هجا النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقام يشبّب بنساء المسلمين؛ فأهدر النبي - صلى الله عليه وسلم - دمه، فجاءه كعب مستسلماً وقد أسلم وأنشده لاميّته المشهورة "بانت سعادُ فقلبي اليوم متبولُ" فعفا عنه النبي وخلع عليه بردته.
وقد تأثر كثيرٌ من الشعراء بهذه القصيدة، ولعل أشعر من عارضها عبر التاريخ هو أمير الشعراء أحمد شوقي، في تسعينيات القرن التاسع عشر، في نصٍّ أسماه "نهج البردة" مطلعه: "ريمٌ على القاعِ بين البان والعلم ... أحلَّ سفك دمي في الأشهر الحُرُمِ".
حظيت البردة كذلك بعددٍ من الترجمات إلى عددٍ من اللغات، لعل أبرزها ومن أجودها ترجمة الشيخ حمزة يوسف إلى اللغة الإنجليزية، هنا.
واليوم، في 2014، في العصر الثالث عملياً، قام الشاعر الفلسطيني الأصل مصري المولد والنشأة تميم البرغوثي بتقديم معارضته اللطيفة والجميلة لهذه القصيدة الخالدة التي كتبها أواخر العام 2010، مرفقاً إياها بمقدمة قيمة وغاية في الجمال تضع كتابة النص في سياقه التاريخي والسياسي، وتراجع العصور الثلاثة لكتابة ومعارضة هذه القصيدة، ملقيةً الضوء كذلك على تشابهٍ غريب، ونسقٍ عجيب في الأحداث التاريخية وحتى في نشأة وأصل الشعراء الثلاثة: البوصيري، وشوقي، والبرغوثي.
كان عدد أبيات بردة البوصيري مائة وستين، زادها شوقي في نهج البردة إلى مائة وتسعين، أتمها تميم حتى وصلت مائتين، وغير القافية من الميم إلى الدال، ليصبح صدر بيت القصيدة الأشهر "مولاي صلِّ وسلّم دائماً أبداً ... على حبيبك خير الخلق كلّهم" عجز البيت الذي يبدأ به المديح في هذه القصيدة: "على النبيِّ وآل البيت والشهدا ... مولاي صلِّ وسلّم دائماً أبداً".
أقتبس تالياً أكثر الأبيات التي أعجبتني من بردة تميم البرغوثي:
"إني لَأرجو بمدحي أن أنال غداً ... منه الشجاعةَ يوم الخوف والمَدَدا"
""أرجو الشجاعةَ من قبل الشفاعة إذ ... بهذه اليومَ أرجو نيلَ تلك غدا"
"ولستُ أمدحه مدحَ الملوك فقد ... راح الملوك إذا قيسوا به بددا"
"هو النبيُّ الذي أفضى لكلِّ فتىً ... بأنَّ فيه نبياً إن هو اجتهدا"
"يا مثلَه لاجئاً يا مثلَه تعِباً ... كن مثلَه فارساً كن مثلَه نَجُدا"
"يا من وصلتَ إلى باب الإله لكي ... تقولَ للخلق هذا البابُ ما وُصدا"
"وقسّمونا كما شاؤوا فلو دخلوا ... ما بين شقّي نواة التمر ما اتحدا"
"يا سيّدي يا رسول الله يا سندي ... هذا العراقُ وهذا الشامُ قد فُقِدا"
"ويستلذون تعذيب الغزاة لهم ... إنّ المحبّ يرى في ذلّه رغدا"
وأخيراً، أختم بما ختم به تميم مقدمة نسخته من البردة حيث قال:
"إنك يا أبا القاسم حين تُمدح، فإنّ الشعر لا ينتهي بانتهاء الإنشاد. وذلك لأنك "من أنفسنا" ولأنه كان "عزيزٌ عليك ما عنتنا" ولأنك كنتَ "حريصاً علينا" ولأنك كنتَ فأل هذه الأمة الحسن، فكنتَ متعباً مثلنا، ومظلوماً مثلنا، ومنفياً مثلنا، ومُكذَّباً ومكذوباً عليك مثلنا، ثم انتصرت".