(تُنشر بالتزامن مع موقع انكتاب: تاريخ اضطهاد المرأة في كتاب الجنس الآخر - بقلم ديانا نصار).
عند قراءة عنوان الكتاب "الجنس الآخر" تتبادر إلى ذهن القارىء تصوراتٌ مختلفة عما عليه توقعه عند قرائته. فقد يظن أحدهم أنه يتحدث عن المرأة، وقد تتصور أخرى أنه يتحدث عن الرجل، وقد يعتقد آخر أنه يتحدث عن علاقة كلِّ طرفٍ بالطرف المقابل. والكتاب في حقيقة الأمر يتناول تحليلاً مفصلاً حول تاريخ اضطهاد المرأة والظلم الذي وقع ويقع عليها عبر التاريخ. نشرته الكاتبة الفرنسية سيمون دي بوفوار عام 1949، وقد كان رائداً ومرجعاً أساسياً للحركات النسوية في أوروبا ووصل الأمر بالفاتيكان إلى وضعه على قائمة الكتب المحرّمة إلى أن أُلغيت هذه القائمة منتصف الستينيات.
تحاول دي بوفوار في فصل الكتاب الأول أن تجد تفسيراً لكيفية تحول العالم ليصبح ذكورياً إلى هذه الدرجة. كيف تسلم الرجل زمام القيادة والسيطرة في هذه الحياة؟ أم أن المرأة هي من سلمته زمام الأمور طوعاً؟ كيف أصبحت المرأة هي "الآخر"؟ وكيف رضيت أن تبقى كذلك؟ في محاولةٍ للإجابة على هذا السؤال تستعرض دي بوفوار ثلاثة تحليلاتٍ مختلفة من وجهة النظر البيولوجية أولاً؛ والتي تُرجع السبب إلى ضعف تكوين المرأة الجسدي وعدم قدرتها على مواكبة قوة الرجل البدنية. ثم وجهة النظر النفسية الفرويدية حول نظرة المرأة لنفسها ولأنوثتها وكيف يؤثر شعورها بأنوثتها على تفاعلها في المجتمع، ثم تطرح أخيراً وجهة النظر المادية التاريخية مستشهدةً بما أورده الفيلسوف الألماني"إنغلس" عن تاريخ المرأة في كتابه "أصل العائلة"؛ حيث ذكر أن ظروف الحياة في العصر الحجري كانت تقوم على تكليف المرأة بالأعمال المنزلية وبعض أعمال البستنة والزراعة مما ضمن لها مساهمة معقولة في الحياة الاقتصادية، بينما كان الرجل يقوم بالصيد وبعض الأعمال في الخارج مما ضمن نوعاً من التقسيم المتساوي للأعمال بين الرجل والمرأة وبالتالي نوعاً من المناصفة المجتمعية فيما بينهما. لكن، بعد ظهور المحراث وأدوات الزراعة وفكرة الملكية الفردية أصبح الرجل قادراً على السيادة في أرضه والاستعانة بتلك الأدوات وتملّك الإقطاعات والعبيد، وأصبح أيضاً مالكاً للمرأة. وقد كان ذلك – من خلال تحليل إنغلس – هو الانكسار التاريخي الكبير للجنس النسائي. وإن كانت دي بوفوار تخالفه الرأي فهي لا ترى أن نزعة الإنسان إلى الملكية الفردية أو حتى قلة قوة المرأة العضلية أو دورها الجنسي كافٍ لتبرير الظلم الذي وقع على المرأة وأدى إلى تهميشها عبر العصور.
تستعرض سيمون في القسم الثاني من الكتاب مظاهر تطور ظلم المرأة ونموه المتوازي مع نموها عبر مراحل تكوينها؛ فالمرأة تُعَد وتُهيىء منذ صغرها لأن تكون أقلَّ درجة من الرجل وتؤسَّس على البقاء في المنزل فتُقدَّم لها الدمى لتعتني بها وتمارس عليها دور الأمومة وتمحور حياتها حول المنزل، بينما يتم إعداد الرجل منذ الصغر وتعويده على الخروج والقيام بأعمال "أكثر أهمية"؛ مما يجعل الفتاة تنظر إلى نفسها منذ الصغر على أنها إنسان بدرجة أقل.
ثم تأتي على فترة المراهقة التي تُرسخ عند الفتاة هذا الظلم والشعور بالاضطهاد؛ إذ أن التغيرات الفيسيولوجية التي تمر بها الفتاة تفرض عليها التنحي والتهميش. فبينما يكون الرجل في أوج نموه وبناء قوته العضلية، تزيد هذه التغيرات من ضعف بنيان جسم المرأة وقوتها البدنية الضعيفة أصلاً. تصاحبها كذلك تغيرات نفسية خاصةً إن لم تكن على وعيٍ بكيفية التعامل مع متطلبات هذه المرحلة؛ مما يدفع بها إلى الزاوية مرةً أخرى.
مما يقودنا فيما بعد إلى مرحلة الزواج؛ والظلم الواقع على المرأة هنا يبدأ من العرف المجتمعي الذي يمنح الرجل حق اختيار الزوجة والطلب كيفما يشاء. أما الفتاة فليس لها سوى الانتظار للحصول على أفضل عرض زواجٍ ممكن، دون أن تملك حرية الاختيار أو الرفض. تعرّج دي بوفوار هنا على معاناة الفتيات عند الارتباط والانتقال إلى مرحلة الزواج لنقص التوعية التي يحصلن عليها بهذه المرحلة وتبعاتها سواء من الأهل أو من المجتمع، وتستشهد بقصصٍ ومآسٍ مرت بها فتيات عند الزواج نتيجة جهلهن وعدم توقعهنّ لما مررن به.
من أكثر الجوانب إثارةً في هذا الكتاب هو الظلم المفروض من المرأة على المرأة نفسها؛ تشخصه دي بوفوار عبر تناول علاقة الفتاة بأمها. فالأم – رغم أنها مرت بنفس الظروف – لا تسعى لتغيير واقع ابنتها بل على العكس تعمل على خلق نفس الظروف ونقل نفس التعليمات والقواعد التي رُسخت لها لابنتها. فهي تحرص على تعليمها الأمور المنزلية منذ الصغر وتفضل أن يقوم الولد لا البنت بإكمال تعليمه حتى وإن كانت البنت أكثر نباهةً. ثم تضغط على ابنتها للحصول على أفضل زوجٍ ممكن؛ وتلومها إن فوتت عرضاً مغرياً أو صيداً (عريساً) ثميناً! وعند الزواج تنتقل الفتاة لبدء حياتها هي، ولتكوين المنزل الجديد الذي يخصها وتشعر فيه هي الآن بالسيادة، فما يكون منها إلا أن تضطلع هي الآن بالقيام بفرض الظلم نفسه على بناتها مرةً أخرى، وتستمر الأمور في ذات الحلقة.
هنا، وبعد أن تمر الفتاة بكل هذه المراحل، ترى دي بوفوار أنها ستشعر لا محالة أنها أفنت حياتها في سبيل الآخرين. وأنها لم تحقق شيئاً خاصاً لذاتها. فهي رغم قيامها بتنشئة الأطفال وتكلفها بالأعمال المنزلية سترى أن كل هذه الأعمال لم تؤدِّ بها إلى تغيير واقعها، وستغادر الحياة دون أن تكون قد أثرت فيها أو حصلت لنفسها على شيءٍ يخصها. فتقدم هنا تصوراً أن سبيل تحرير المرأة الأقوى هو بحصولها على الاستقلال المادي؛ فهي ترى أنها حين ذاك ستكون قادرةً على تملك زمام أمرها والتصرف بحياتها كما تريد لتتمكن لاحقاً من المطالبة بحقوقها الاجتماعية وحقوق المشاركة السياسية أو حتى الاستغناء عن الرجل. وهنا تبين كيف أن المرأة التي تكوّن لنفسها قوةً مادية واجتماعية كبيرة تتخذ من الزواج اختياراً وليس شرطاً كما في حالة النساء الأخريات، وترفض الخضوع للرجل والنزول إلى حكمه إلى درجة أنها قد تعزف عن الزواج أو حتى تمارس السحاق.
يبقى السؤال مطروحاً إذاً على مائدة النقاش: كيف للمرأة أن تتخلص من هذا الاضطهاد وتحصل على حريتها المنشودة؟ ما هي الخطوات العملية الكفيلة بتقدمها وحصولها على التقدير والوضع الذي تستحق؟ وهل يساعد المجتمع المرأة على القيام بدورها المفترض وانتزاع هذه الحرية؟ قد تكون الإجابة على هذه التساؤلات ومعالجتها خطوةً أولى في الطريق الطويل الشاق في سبيل تحرير المرأة.
0 comments :
Post a Comment