تابعتُ أحمد الشقيري لأول مرة في الصف التاسع تقريباً، في خضم موجة ما عُرف بـ"الدُّعاة الجدد"؛ ممن أخذوا على عاتقهم تقديم الإسلام والتدين والدعوة بصورةٍ مختلفة، أكثر ما ميزها أنها كانت جذابة، بالمحكية الدارجة على الأغلب، منزوعة الدسم، و"كول". (بصرف النظر عما آلت إليه أحوالهم وتقلباتهم السياسية والدينية فيما بعد). كان الشقيري حينها جزءاً من "يلا شباب"؛ مجموعة من الشباب تحاور هؤلاء الدعاة وتطرح على الشباب أفكاراً وثقافةً جادة ومبادرات عملية ضمن إطارٍ جميلٍ جذابٍ ومحبب يحمل صبغةً شبابيةً ملفتة.
انتقل نفس الشباب - ومن ضمنهم الشقيري - بعدها إلى حلقات خاصة ودورة مختلفة بعنوان "رحلة مع الشيخ حمزة يوسف"؛ قدمت عبر موسمين تجربة مختلفة وفريدة لعرض الإسلام في الغرب وفتح قناة تواصل بين شرق العالم وغربه. أنا شخصياً ساهَمت تلك الحلقات بمعرفتي عن عالمية الإسلام وانتشاره في دول أوروبا وأمريكا التي قدمتها سلسلة الرحلة، وتعرفت من خلاله على غربيين مميزين، شيوخاً أو دعاةً أو مسلمين عاديين، ما زلتُ أتابعهم وأحب تصفح أخبارهم من الحين للآخر.
لاحقاً، ما لبث ذلك الزخم الإعلامي والتركيز على أولئك "الدعاة الجدد" بالفتور تدريجياً، وكثرتهم أدت إلى اعتيادهم وتقليص حدة ظاهرتهم، وكثرة البرامج جعلت الموضوع استهلاكياً تجارياً موجهاً حسب الحاجة.
وسط ذلك الزحام المشتِّت، بدأ "خواطر شاب".
كان أحمد الشقيري قبل "خواطر شاب" واحداً ضمن مجموعة، لفتني - كمشاهِدة - بذات القدر الذي لفتني به أحمد الفيشاوي أو عمرو القاضي أو قسورة الخطيب. لكن في "خواطر" كان الأمر مختلفاً؛ أصبح الشقيري هو المحور. أصبحت المسؤولية عليه وحده ليقود ويُدهش. لم يكن مضطراً ليثبت أي شيء، لكنه أثبت الكثير.
كان "خواطر شاب" فكرةً مميزة ومختلفة. عامل الزمن فيها هو الأكثر إدهاشاً. حلقات الموسم الأول لم تتعد الخمس دقائق للحلقة الواحدة؛ أشبه ما تكون بفاصلٍ دعائي. واليوم، حتى الموسم الحادي عشر، لم تتجاوز أي حلقة من خواطر مدة عشرين/خمسٍ وعشرين دقيقة. قدرة اختزال العبرة والفائدة وتكثيفها في هذه الدقائق المحدودة جعلت من تجربة متابعة "خواطر" متعةً حقيقيةً وغنية؛ لا يمكن لك معها أن تشعر بالملل أو الإطالة أو التكرار في عرض أي فكرة.
تميُّز "خواطر" كان باتخاذه منهجاً علمياً نهضوياً تنويرياً يقدم الجانب العملي للدين. "خواطر" تجاوز جانب التأصيل الروحي والمعرفي للدين - وقد كانت وما زالت هناك الكثير من البرامج التي تصدت لهذه الجوانب الهامة - وتطرّق إلى كيفية الانتفاع من هذا العلم والدين في عيش حياةٍ مختلفة. في الانطلاق والسعي وإعمار هذه الأرض.
لم يقل الشقيري أنّ المسلمين أحسن أهل الأرض اليوم - بدينهم وكفى - جاب الدنيا وعرض أحوال الأمم في شتى بقاع الأرض، عرض جوانب تقدمنا وجوانب تقصيرنا كذلك. واجه فكرة أنّ "غيرنا" هم "بلاد الكفار الضالين الغارقين في الجهل والتخلف، عليهم لعنة الله". لم يجد حرجاً في أن يقول أن اليايان قد غدت كوكباً آخر وتجاوزتنا نحن المسلمين - خير الأمم كما يحلو لنا أن نكرر - بأشواط وقفزات حضارية هائلة. لم يألُ جهداً أن يُطلعنا على أممٍ نهضت ونجحت وغيرت وأثرت؛ في سنغافورة وماليزيا والدنمارك وبلجيكا وبريطانيا وحتى الإمارات والسعودية. انتحى جانب التأثير الحسن، وشَحَن متابعيه بإيجابيةِ أننا أيضاً نستطيع. عرض لخطوات عملية وأطلق مبادرات وسلّط الضوء على مبادرين ومتطوعين تسلحوا بروح النهضة والإحسان الذي نادى به كي يكونوا هم أيضاً جزءاً من التغيير المنشود.
ما ميّز أحمد الشقيري أن خطابه لم يكن تقليدياً عابراً؛ أنه تجاوز أحكام الطهارة ومبطلات الوضوء وتكفير الآخرين وانتقل إلى لُب الدين، إلى الفهم الحقيقي له، إلى ربطه بحياتنا اليومية وأهدافنا المستقبلية، إلى دعوتنا إلى تجاوز الأحكام المسبقة والصور النمطية - ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً - والعمل سوياً بصرف النظر عن كل ما يفرّقنا لنهضة ورفعة شأننا بين الأمم.
شخصياً، أحمد الشقيري يشبهنا؛ لم يَدّعِ الكمال يوماً، لم ينسب لنفسه فضلاً ليس له، لم يقل بأنه نشأ هكذا ملتزماً مبادراً إيجابياً. على العكس تماماً، بتتبُّع قصة حياته ترى أنه مرّ مثلنا جميعاً بالكثير من المطبات؛ ترك الصلاة وابتعد عن الالتزام الديني، وكان مدخناً شرهاً وخاض تجربة الطلاق. ثم عاد وتفكر في ذاته إلى أن وصل إلى ما وصل إليه اليوم من الالتزام المنطقي العملي غير المنفّر، والإيجابية والمبادرة والتأثير والتغيير في حياة الكثيرين.
إذا كان مشروع "خواطر" قد أخذ من أحمد الشقيري عقد الثلاثينيات من عمره كما قال في أولى حلقات هذا الموسم الأخير، فإنه قد بدأ أول حلقاته في "خواطر شاب" وأنا في الصف الأول ثانوي - في السادسة عشرة - وها هو اليوم يختتم المشروع بعد ثلاث سنوات من تخرجي من الجامعة - في عامي السادس والعشرين. أحمد الشقيري بمشروع "خواطر" أثّر في تكوين شخصيتي وأفكاري ومعرفتي عن الأمم وحتى عن مجتمعاتنا، ويحلو لي أن أفكر أنه جعلني إنسانة أفضل. أحمد الشقيري كان له الأثر الكبير في تكوين فكري العملي على الأقل في إحدى أهم مراحل حياتي وأكثرها حرجاً في نشأة الفكر والتطبيق.
مثلي ومثل كثيرين من جيلي، سيبقى لهذا المشروع مكانةً خاصة في حيز تفكيرنا ونظرتنا إلى أمتنا ومجتمعاتنا. من الصعب أن يأتي مشروعٌ آخر من شخصٍ لم يتأثر بتقلبات السياسة والدين في العالم العربي في العقد الفائت، وظلّ قادراً على أن يحوز على الإعجاب والمتابعة رغم كثرة المتغيرات. تمكن من التفوق على نفسه في كل موسم بالاستمرار أولاً، وبالتطوير والزيادة والإحسان والتزام ذات المعايير. حتى الشارة الغنائية لكل موسم أصبحت علامةً فارقة نتتبعها في كلِّ رمضان! تابعه الكثيرون بغض النظر عن دينهم أو جنسهم أو عمرهم أو جنسيتهم أو وضعهم الاجتماعي. "خواطر" كان من الثوابت النادرة لدينا طيلة أحد عشر رمضاناً.
إننا مدينون لهذا المشروع ولهذا الشخص بالكثير؛ شكراً أحمد الشقيري - وكل من كان معه في "خواطر" - على هذا الجهد والوقت والإحسان والتفكر. نتمنى أن تكون همتنا عالية، وأن لا ننسى كل تلك الإيجابية التي شحنتنا بها، وأن يبقى تأثير هذا الجهد معنا ولا يتوقف مع نهاية هذا المشروع. نسأل الله أن يكون هذا العمل في ميزان حسناتك في الدنيا والآخرة.
أحمد الشقيري ومشروعه "خواطر" سيبقى بالتأكيد ظاهرةً فريدة تستحق التأمل والتفكر والاحترام.
0 comments :
Post a Comment