أولاً، لم أحب يوماً أن أكتب "سوريا" بالتاء المربوطة (سورية). ولا أحبُّ أن أُشدّد الياء فتغدو "سوريّا". هي عندي: "سوريَا"، بقرارٍ شخصيٍّ جداً يُشعرني بحميميةٍ خاصة مع هذا البلد؛ فأكتب اسمه وأنطقه كما أشاء.
كنتُ طالبةً في الجامعة الأردنية، تخرجت، حصلتُ على وظيفتي الأولى، استقلتُ منها، حصلتُ على وظيفتي الثانية والحالية. بالنسبة لي، هذا عمرٌ كامل، هذه سنين كثيرة وأحداثٌ كثيرة وأناسٌ كثر. أتنبّهُ فجأة: بدأت "أحداث سوريا" حينما كنت طالبةً في الجامعة! من أول هذه الحلقة، وأنا أنشر عن سوريا.
أذكر تماماً أول ما نشرتُ حين بدأ "الربيع العربي" يحطُّ رحاله في سوريا: أغنية "شآم" للفنانة السورية لينا شماميان. كتبتُ حينها أنها تهليلةٌ لأرواح أولئك الذين سلّموا أرواحهم إلى بارئها في ذلك الأسبوع.
لم أتصور يوماً أن تنقضي كلُّ هذه السنين، ويفقد كلُّ أمرٍ معها جدواه. فلا تهليلة تنفع، ولا كلام يُعزّي، ولا مقبرة تسع، ولا بلاد تستقبل، ولا شطآن تحمل، ولا بحار تُقِل، شعباً كاملاً جُرِّد من وطنه وخيراته وأمانه ومسكنه وأرضه، ولو إلى كل بقاع الدنيا.
أيُّ قبحٍ في هذا العالم يستدعي أن تتشبث ثلةٌ من المجرمين الطغاة بالسلطة، وتجبر بلداً عظيماً كهذا أن يلفظ أهله وأبناءه؟ أن يصبح السؤال بلا إجابة؛ فرحيل بشار ما عاد يكفي، تفكيك الجيش ما عاد يكفي، داعش، النصرة، الجيش الحر، إيران، حزب الله، .. لا شيء يكفي!
أن يلفظك وطنك وهو ما زال على قيد الوجود، هذا أمرٌ قبيحٌ جداً. مؤلمٌ جداً.
ثم يأتي ذلك الرجل العميق المحنّك مسترخياً على فراشه الوثير يقلّب التلفاز فتُفسد مزاجه أخبار "طالبي الهجرة" السوريين إلى أوروبا ويقول: "أي مين قال لهم يتركوا بلدهم؟ طمعانين بفلوس أوروبا وعيشة أوروبا!". يا أخي - بقليل من الشخصنة - جرّب أن تتصور نفسك مكانه؛ لا تأمن على أولادك أن يذهبوا إلى المدرسة، أو يناموا بأمان، لا تستطيع أن تؤمّن لهم قوت يومهم، تخاف أن تقتلعك وأهلك قديفةٌ مجهولة المصدر! هل كنت ستبقى؟ ولو خُيّرت بين المخيمات ورحلة التهريب المميتة إلى أوروبا، بأيّ أملٍ ستتشبث؟ أيُّ "حياةٍ" ستختار؟
صادفتُ أحدهم ولاح لي أنّ لهجته قريبةٌ من اللهجة السورية. سألتُه إن كان سوريّاً فأجاب بالنفي. أطرق قليلاً ثم قال - مازحاً -: "بتعرفي، زمان الواحد كانوا إذا فكّروه سوري ينبسط إنه يعني شب متكتك ومرتب وهيك. هلأ إذا سألوه (إنتَ سوري) بصير يقول (شو قصدك يعني آه؟!)..".
تركني أفكر كثيراً.
منذ متى كانت سوريا غريبة عنا؟ منذ متى كان السوريون غيرنا؟
سوريا جزءٌ من طفولتي وصباي؛ زملائي السوريون في المدرسة والجامعة، برامج التلفزيون السوري للأطفال شغلتني في صغري، العربية السليمة أحبّ سماعها من أيّ سوريٍّ في أيِّ لقاءٍ متلفز ينطق بها جميلةً صحيحةً عذبة دون أيِّ تكلّف، طبق أقراص الكبة الذي كانت ترسله جارتنا الشامية لنا، حلويات ومخللات و"مقدوس" وهدايا الشام يجلبها والداي لنا بعد زيارةٍ قصيرة لدمشق في عطلة نهاية الأسبوع! كيف تهون على الإنسان كلُّ هذه الذكريات من بلدٍ واحدٍ ملاصقٍ لنا بجغرافيته، ولقلوبنا بحميميته؟ أتساءل كيف.
أتأملُ قليلاً، وأصمت. لا يشغلني شيء سوى تلك الفتاة - في سوريا - التي كانت في مثل عمري؛ طالبةً في الجامعة، مليئةً بكل أسباب الحياة، أراني أنا الآن أعمل في وظيفتي الثانية في بلدي، وأراها هي تكسّرت أحلامها تتشبثُ برمقٍ آخرَ للحياة في أحد القوارب المتجهة لأوروبا. وفي البال، صورةُ وطنٍ غدا الحلم: سوريا.
سُوريا لنا ولكل عربيّ .. لكل مسلم ..
ReplyDeleteسوريا جرح الأمة النازف وما زال
سُوريا استثناء .. سُوريا غير مرغوب بها بين دول العالم
سُوريا لجميع الأنقياء
ديانا تدوينة جميلة جداً ومؤلمة جداً ومعبرة جداً
ReplyDeleteشكراً روان! سعيدة بمرورك :)
Deleteشكراً لصدق كلامك ومشاعرك
ReplyDelete