عامر..
(1)
22/11/2014: يتمّ عامه الثالث عشر. حفلة ميلاد كبيرة لعامر؛ تضم كل عائلته وأصدقائه ومتطوعي مركز الحسين للسرطان. تصمم أمي أنّ عليّ الذهاب أنا أيضاً. أعترض: لن أشارك في حفل ميلاد "تأبيني" لعامر، ولا تعجبني الفكرة. عامر سيعيش ويبقى بيننا سنوات كثيرة، سأحضر حفلات ميلاده القادمة. لن أحتفل معكم بهذه الطريقة المؤلمة هذه السنة.
رحل عامر عن عالمنا في 14/3/2015.
(2) - قبل أربع سنوات وبضعة أشهر -
يتشاور والدي وعمي الأكبر أمامي حول الطريقة الأمثل لإخبار عمتي بنتائج الفحوصات. تأتي عمتي مبتهجةً بقدومنا وتسكب الشاي وتقول: "الحمد لله، أول ما حكوا لنا مستحيل سرطان خلص ارتحت. عم بستنّى نتائج التحاليل لأعرف ماله؛ مفاصله بتوجعه حبيبي. بس الحمد لله أهم إشي إنه مش سرطان".
يتبادل عمي ووالدي النظرات، ثم يبدآن الخطاب: "يا أختي إنتِ مؤمنة بقضاء الله وقدره؛ الفحوصات بيّنت إنه عامر بعاني من سرطان الدم. بس لسة في أول مراحله، والعلاج الحمد لله صار أسهل هالأيام ووو...".
عامر هو بِكرُ عمتي، وأول فرحتها من الأطفال.
(3)
كنتُ في زيارةٍ للجامعة الأردنية؛ يجاورها مركزالحسين للسرطان وعمّتي انتقلت للسكن في تلك المنطقة لكثرة ترددها وعامر على المركز. اتصلتُ بعمتي: "حابة أزور عامر بالمستشفى، وينكم؟". تجيب: "خلّص الخزعة ورجع انتكس، كتير تعبان حبيبي. بس ما بنحكي غير الحمد لله. هينا روّحنا بالبيت". اتصلتُ بمديري بالعمل وطلبتُ إذناً بالمغادرة سائر اليوم. اشتريتُ الشوكولاتة والحلوى التي يحبها عامر له ولإخوته وذهبتُ لزيارتهم.
كان ممدداً على إحدى كنبات غرفة الجلوس. لا يقوى على الاسترخاء، ولا الجلوس، ولا ضمّ قدميه لبعضهما من ألم الخزعة. يبكي ويصرخ من شدة الألم. أتأمله وكل معاني العجز في هذه الدنيا تحضرني؛ لا يمكنني أن أفعل أيّ شيء لأخفف ألم هذا الطفل الملاك أمامي. لا يمكنني أن أحتمل المشهد.
عندما زرنا عمتي في بيتها في عيد الأضحى هذه السنة، كانت تلك الكنبة فارغة. تأملتُها، حضرني المشهد، تحشرجتُ بالبكاء، وابتعدت.
(4) - عيد الفطر 1435 هجرية/2014 ميلادية -
كانت الساعة في حدود الحادية عشرة ليلاً. كنا في زيارة أقارب والدي عند الدوار السابع. اتصلتُ بعمتي وسألتها إن كان يمكننا زيارتها الآن. كان صوتها حزيناً وهي تقول أنّ عامر عاد وانتكست حالته، وهي معه الآن في مركز الحسين. عامر لم يتمكن من استشعار معنى العيد. أضافت بحزن: "طلب مني ساندويش فلافل قبل شوي، كتير جاي على باله. بس الدنيا أزمة عيد وما فيه حدا عندي هلأ". فوراً قلت: "خلص عمتو حبيبتي هينا طالعين رح نجي نزورك بالمركز ونجيب لعامر الساندويش اللي طلبه".
أذكر جيداً أننا وصلناها في الواحدة من صباح اليوم التالي؛ لشدة الأزمة أيام العيد. نزلتُ أنا وأختي ديمة فقط حيث كان وقت الزيارة قد انتهى حتى مع كل اسثناءاته. خبّأت الساندويش في حقيبتي وتمكنّا من الوصول لغرفة عامر. نظرتُ إليه بكلّ أسى. هذا الطفل الذي لم يتمكن حتى من الاستمتاع بأبسط لحظات الحياة. ناولته الساندويش، وعيدية صغيرة محاولةً إشعاره أنّ بإمكانه أن يعيش فرحة هذا اليوم. طمأنته بحزم أنه: "ولا يهمك حبيبي، العيد الجاي إن شاء الله بتكون صرت أحسن، وبتطلع بتنبسط وبتلعب مع أصحابك، وأصلاً إن شاء الله بكون راح عنك كل المرض".
كان ذلك العيد هو عيد الفطر الأخير الذي قضاه عامر معنا.
(5) - أنا الوحيدة اللي ما عندي مع عامر "سيلفي"! -
عامر كان يحب الناس، كثيراً. كلما جاء أحدهم لزيارته، طلب أن يلتقط معه صورة سيلفي. كان ينشر الصور على حسابه على فيس بوك بفرحٍ وأمل.
تنبّهتُ بعد رحيله أنني أكاد أكون الوحيدة - إن لم أكن الوحيدة فعلاً - التي لم تحظَ بصورة سيلفي مع عامر. مع أنني ابنةُ خاله.
لا أعني صور أعياد الميلاد وصور العائلة والصور الجماعية فتلك كثيرة؛ أقصد السيلفي!
قلّبتُ كلّ الصور؛ وجدتُ صورةً واحدة تجمعني به وأختي ديمة عندما ذهبتُ للاطمئنان عليه في زيارةٍ خاطفة للمركز. كانت ديمة قد قضت الوقت معه تشاركه لعب الشدة. وجئتُ أنا، سلّمتُ بسرعة، التقطنا الصورة بناءً على طلبه في عجالة. وغادرت.
لكنها لم تكن صورة سيلفي.
(6) - شهر 1/2015 -
بعد أن أخبرنا الأطباء مع نهاية السنة الفائتة أنّ عامر على طريق الشفاء التام وأنّ استجابته للعلاج ممتازة. جاء الخبر كالصاعقة: عامر لديه ثلاثة أشهر في أعلى تقدير قبل أن يغادر الدنيا. السرطان عاد وتفشّى في كل أنحاء جسده.
لم أصدق الخبر، ولم أشأ تصديقه. عامر طفلٌ صغير جميل قوي كان يمدّنا جميعاً بأسباب الحياة. لا يمكن أن تكون النهاية هكذا. لقد طمأنونا أكثر من مرة. لا بد وأنّ خطأً ما قد حصل. عامر أقوى من السرطان. لا يمكن. مستحيل.
بدأت الدعوات تتهافت والصلوات تتوحد. تجتمع العائلة حول التصرف الأمثل. ماذا سنفعل في الأيام القادمة؟ هل نأخذه في عمرة لبيت الله الحرام؟ (وأيُّ ذنوبٍ عليه، وهو أنقى منا جميعاً!). هل يبقى في المركز أم يعيش أيامه الأخيرة بين إخوته ووالديه في المنزل؟ وعمتي؟ ماذا نفعل؟
(7) - الخميس، 12/3/2015 -
عامر غادر إلى منزله منذ أيام بعد أن هدأت حالته. اتصلتُ بوالدي لأخبره أنني ذاهبة لزيارة عامر في المنزل. فقال: "عامر أُدخل اليوم طوارىء على المركز، وحالته كتير صعبة. كل عائلته وأصحابه هناك، وهينا بالطريق رايحين عليه. تعالي".
اتجهتُ مسرعةً لمركز الحسين، دخلته في السابعة والنصف مساءً. الزيارة على وشك الانتهاء أو انتهت. لكن يكفي أن تقول عند الباب أنك قادمٌ لزيارة عامر حتى ينظر إليك الأمن نظرة أسى ويحثك على الذهاب مسرعاً لغرفة عامر لإلقاء النظرة الأخيرة وتوديعه.
آخر مرة رأيتُ بها عامر كان منتفخاً من أثر الكورتزون. وصلتُ غرفته وهالني ما رأيت. كان ورقةً صفراء اللون ممدداً على السرير يحيط به كل من أعرف ولا أعرف، وصوت القرآن يعلو من التلفاز مع أصوات النحيب والتهليل بالدعاء من كل من حوله.
لم أعرف ماذا عليّ أن أفعل. لم أكن أصدق ما أرى. لقد سمعتُ أن ابنة عمي اصطحبته البارحة ليسبح وقد كان جيداً ومسروراً وصور الفرح تملأ فيس بوك. ما الذي حصل؟ بأيِّ شكلٍ يعمل هذا المرض؟
أناسٌ تأتي وأناسٌ تغادر، وعامر لا يعي ما حوله. يستيقظ كل ساعة لثوانٍ معدودة يتأوه من الألم ويشكو أن التمدد هكذا لا يريحه، ولا وضعية رأسه، ولا قدميه. يحاول أبواه أن يعدّلا من جلسته كي يريحاه، والطفل يتأوه.
يمر الطبيب والممرضات دورياً. نسألهم إن كان من الأفضل أن نغطيه أو لا إن شعر بالحر. يقول الطبيب: "اعملوا اللي بريحه وبس. خلوه يرتاح..".
أوصل الطبيب إذاً الرسالة.
لم أشعر يوماً بكل هذا العجز. ألجأ إلى النافذة وأتخبأ وراء الستار وأبكي وأتضرع إلى الله: "يا رب أنا بعرف إني مليانة ذنوب بس بترجاك، بترجاك يا الله تمنح هالولد كمان عمر، ولا تحرمنا وتحرم أهله منه، يا رب..".
استيقظ عامر لهنيهات، وكان الليل قد انتصف وأصبحنا قلةً حوله. اقتربتُ منه وقبّلتُ رأسه وقلت: "أنا بعرف إنك بتحب نادين - أختي - كتير. أنا إجيت زرتك اليوم، بس بكرة رح أخلّي نادين هي تجي تزورك مشان إنتَ تنبسط. تمام؟". هزّ رأسه بالإيجاب.
وكانت هذه المرة الأخيرة التي يتفاعل بها عامر معي.
غادرنا في الواحدة صباحاً. حال وصولي المنزل أخبرت نادين أختي أن عامر ينتظر قدومها غداً. أعرف أنه لم يكن يعي تماماً ما حوله، لكن أنا وعدته أن تذهب. وقد كانت أصلاً تنوي ذلك؛ فقد كانت ترافق عامر دائماً، وتلاعبه، وتدخل الفرحة إلى قلبه.
(8) - السبت، 14/3/2015: هل جربتَ أن تحضن طفلاً ميتاً؟ -
اتصل والدي بنا ظهراً يحثنا على الإسراع في القدوم للمركز لأن حالة عامر أصبحت حرجة: "يا بتلحقوا يا ما بتلحقوا".
اتجهنا أنا ووالدتي في عجالة للمركز. الأزمة كانت شديدة طوال الطريق. كان علينا أن نبتاع بعض الحاجيات في طريقنا وانتابني هاجسٌ غريب أننا قد لا نتمكن من رؤيته لو تأخرنا قليلاً. صرتُ أزاحم وأحاول الإسراع ما استطعت حتى نتمكن من الوصول قبل فوات الأوان.
دخلنا باتجاه كراج المركز ورنّ هاتف والدتي. كان والدي على الجهة الأخرى يسأل: "وين صرتوا؟". أخبرته أمي أننا ندخل إلى الكراج فقال: "خلص ما فيه داعي؛ عامر مات".
لم أعد قادرةً على قيادة السيارة ودخول الكراج. تركتُ المقود وعدَّلَت أمي غيار السيارة بسرعة وبدأتُ بالبكاء. حاولَتْ تهدئتي وأنزلتني من السيارة. قدم مشرف الكراج ليساعدني في النهوض، ذهبت أمي لتركن السيارة واتجهتُ هائمةً على وجهي صوب مدخل المركز وسط مواساة كل من صادفت على الطريق؛ فحتى وإن لم يعرفونني، من المؤكد أنهم يعرفون ما الذي قد يدفع أحداً للبكاء في مثل هذا المكان.
عجزتُ عن النهوض، لم تسعفني ركبتاي، وصلتُ إلى حيث كان عامر وكانت كل العائلة وأصدقائه هناك. الكل حاول منعي من الدخول، طلبوا مني أن لا أنهار أمام والديه. كان الموقف جدّ صعب.
اتجهتُ إلى غرفته، هالني ما رأيت. كان ممدداً ورقةً هامدة تماماً كما رأيته آخر مرة. يجلس والداه على طرفي الفراش يقرآن له القرآن. لبِكرهما، ولدهما الأكبر. ربط الله على قلبيهما في أشدّ اللحظات حلكة. أقبلتُ عليه، بكيتُ بحرقة، دنوتُ منه وقبّلتُه وحضنُته. هل جرّبتَ يوماً أن تحضن طفلاً ميتاً؟ شعرتُ به يحضنني، والله لقد حضنني. صرتُ أكلّمه وأعتذر منه: "حبيبي أنا آسفة إني ما لحّقتك، ما لحّقت أشوفك اليوم. أنا خليت نادين تجي تزورك امبارح زي ما وعدتك. يا حبيبي سامحني. الله يرحمك، الله يرحمك ويصبّرنا على بعدك".
جاء والداي وإخوتي لأخذي من عنده. لم أصدق ما أرى. لقد رأيته هكذا تماماً قبل يوم؛ فكيف غدا الآن جثةً هامدة؟ وكيف لوالديه أن يجلسا هكذا بكل رباطة الجأش تلك يقرآن القرآن لأكبر أولادهما وقد رحل من بين أيديهم؟
قرأتُ له الفاتحة وألقيتُ عليه نظرة الوداع الأخيرة راقداً في مركز الحسين، وغادرتُ إلى مراسم العزاء.
------------------------------------
عامر عاش بيننا، أنار حياتنا وأمدّنا جميعاً بأسباب القوة والأمل. وُلد في 22/11/2001، ورحل عن عالمنا في 14/3/2015.
عامر، لروحك الطاهرة كلّ الرحمة، ولنا من بعدك الصبر والسلوان.
(1)
22/11/2014: يتمّ عامه الثالث عشر. حفلة ميلاد كبيرة لعامر؛ تضم كل عائلته وأصدقائه ومتطوعي مركز الحسين للسرطان. تصمم أمي أنّ عليّ الذهاب أنا أيضاً. أعترض: لن أشارك في حفل ميلاد "تأبيني" لعامر، ولا تعجبني الفكرة. عامر سيعيش ويبقى بيننا سنوات كثيرة، سأحضر حفلات ميلاده القادمة. لن أحتفل معكم بهذه الطريقة المؤلمة هذه السنة.
رحل عامر عن عالمنا في 14/3/2015.
(2) - قبل أربع سنوات وبضعة أشهر -
يتشاور والدي وعمي الأكبر أمامي حول الطريقة الأمثل لإخبار عمتي بنتائج الفحوصات. تأتي عمتي مبتهجةً بقدومنا وتسكب الشاي وتقول: "الحمد لله، أول ما حكوا لنا مستحيل سرطان خلص ارتحت. عم بستنّى نتائج التحاليل لأعرف ماله؛ مفاصله بتوجعه حبيبي. بس الحمد لله أهم إشي إنه مش سرطان".
يتبادل عمي ووالدي النظرات، ثم يبدآن الخطاب: "يا أختي إنتِ مؤمنة بقضاء الله وقدره؛ الفحوصات بيّنت إنه عامر بعاني من سرطان الدم. بس لسة في أول مراحله، والعلاج الحمد لله صار أسهل هالأيام ووو...".
عامر هو بِكرُ عمتي، وأول فرحتها من الأطفال.
(3)
كنتُ في زيارةٍ للجامعة الأردنية؛ يجاورها مركزالحسين للسرطان وعمّتي انتقلت للسكن في تلك المنطقة لكثرة ترددها وعامر على المركز. اتصلتُ بعمتي: "حابة أزور عامر بالمستشفى، وينكم؟". تجيب: "خلّص الخزعة ورجع انتكس، كتير تعبان حبيبي. بس ما بنحكي غير الحمد لله. هينا روّحنا بالبيت". اتصلتُ بمديري بالعمل وطلبتُ إذناً بالمغادرة سائر اليوم. اشتريتُ الشوكولاتة والحلوى التي يحبها عامر له ولإخوته وذهبتُ لزيارتهم.
كان ممدداً على إحدى كنبات غرفة الجلوس. لا يقوى على الاسترخاء، ولا الجلوس، ولا ضمّ قدميه لبعضهما من ألم الخزعة. يبكي ويصرخ من شدة الألم. أتأمله وكل معاني العجز في هذه الدنيا تحضرني؛ لا يمكنني أن أفعل أيّ شيء لأخفف ألم هذا الطفل الملاك أمامي. لا يمكنني أن أحتمل المشهد.
عندما زرنا عمتي في بيتها في عيد الأضحى هذه السنة، كانت تلك الكنبة فارغة. تأملتُها، حضرني المشهد، تحشرجتُ بالبكاء، وابتعدت.
(4) - عيد الفطر 1435 هجرية/2014 ميلادية -
كانت الساعة في حدود الحادية عشرة ليلاً. كنا في زيارة أقارب والدي عند الدوار السابع. اتصلتُ بعمتي وسألتها إن كان يمكننا زيارتها الآن. كان صوتها حزيناً وهي تقول أنّ عامر عاد وانتكست حالته، وهي معه الآن في مركز الحسين. عامر لم يتمكن من استشعار معنى العيد. أضافت بحزن: "طلب مني ساندويش فلافل قبل شوي، كتير جاي على باله. بس الدنيا أزمة عيد وما فيه حدا عندي هلأ". فوراً قلت: "خلص عمتو حبيبتي هينا طالعين رح نجي نزورك بالمركز ونجيب لعامر الساندويش اللي طلبه".
أذكر جيداً أننا وصلناها في الواحدة من صباح اليوم التالي؛ لشدة الأزمة أيام العيد. نزلتُ أنا وأختي ديمة فقط حيث كان وقت الزيارة قد انتهى حتى مع كل اسثناءاته. خبّأت الساندويش في حقيبتي وتمكنّا من الوصول لغرفة عامر. نظرتُ إليه بكلّ أسى. هذا الطفل الذي لم يتمكن حتى من الاستمتاع بأبسط لحظات الحياة. ناولته الساندويش، وعيدية صغيرة محاولةً إشعاره أنّ بإمكانه أن يعيش فرحة هذا اليوم. طمأنته بحزم أنه: "ولا يهمك حبيبي، العيد الجاي إن شاء الله بتكون صرت أحسن، وبتطلع بتنبسط وبتلعب مع أصحابك، وأصلاً إن شاء الله بكون راح عنك كل المرض".
كان ذلك العيد هو عيد الفطر الأخير الذي قضاه عامر معنا.
(5) - أنا الوحيدة اللي ما عندي مع عامر "سيلفي"! -
عامر كان يحب الناس، كثيراً. كلما جاء أحدهم لزيارته، طلب أن يلتقط معه صورة سيلفي. كان ينشر الصور على حسابه على فيس بوك بفرحٍ وأمل.
تنبّهتُ بعد رحيله أنني أكاد أكون الوحيدة - إن لم أكن الوحيدة فعلاً - التي لم تحظَ بصورة سيلفي مع عامر. مع أنني ابنةُ خاله.
لا أعني صور أعياد الميلاد وصور العائلة والصور الجماعية فتلك كثيرة؛ أقصد السيلفي!
قلّبتُ كلّ الصور؛ وجدتُ صورةً واحدة تجمعني به وأختي ديمة عندما ذهبتُ للاطمئنان عليه في زيارةٍ خاطفة للمركز. كانت ديمة قد قضت الوقت معه تشاركه لعب الشدة. وجئتُ أنا، سلّمتُ بسرعة، التقطنا الصورة بناءً على طلبه في عجالة. وغادرت.
لكنها لم تكن صورة سيلفي.
(6) - شهر 1/2015 -
بعد أن أخبرنا الأطباء مع نهاية السنة الفائتة أنّ عامر على طريق الشفاء التام وأنّ استجابته للعلاج ممتازة. جاء الخبر كالصاعقة: عامر لديه ثلاثة أشهر في أعلى تقدير قبل أن يغادر الدنيا. السرطان عاد وتفشّى في كل أنحاء جسده.
لم أصدق الخبر، ولم أشأ تصديقه. عامر طفلٌ صغير جميل قوي كان يمدّنا جميعاً بأسباب الحياة. لا يمكن أن تكون النهاية هكذا. لقد طمأنونا أكثر من مرة. لا بد وأنّ خطأً ما قد حصل. عامر أقوى من السرطان. لا يمكن. مستحيل.
بدأت الدعوات تتهافت والصلوات تتوحد. تجتمع العائلة حول التصرف الأمثل. ماذا سنفعل في الأيام القادمة؟ هل نأخذه في عمرة لبيت الله الحرام؟ (وأيُّ ذنوبٍ عليه، وهو أنقى منا جميعاً!). هل يبقى في المركز أم يعيش أيامه الأخيرة بين إخوته ووالديه في المنزل؟ وعمتي؟ ماذا نفعل؟
(7) - الخميس، 12/3/2015 -
عامر غادر إلى منزله منذ أيام بعد أن هدأت حالته. اتصلتُ بوالدي لأخبره أنني ذاهبة لزيارة عامر في المنزل. فقال: "عامر أُدخل اليوم طوارىء على المركز، وحالته كتير صعبة. كل عائلته وأصحابه هناك، وهينا بالطريق رايحين عليه. تعالي".
اتجهتُ مسرعةً لمركز الحسين، دخلته في السابعة والنصف مساءً. الزيارة على وشك الانتهاء أو انتهت. لكن يكفي أن تقول عند الباب أنك قادمٌ لزيارة عامر حتى ينظر إليك الأمن نظرة أسى ويحثك على الذهاب مسرعاً لغرفة عامر لإلقاء النظرة الأخيرة وتوديعه.
آخر مرة رأيتُ بها عامر كان منتفخاً من أثر الكورتزون. وصلتُ غرفته وهالني ما رأيت. كان ورقةً صفراء اللون ممدداً على السرير يحيط به كل من أعرف ولا أعرف، وصوت القرآن يعلو من التلفاز مع أصوات النحيب والتهليل بالدعاء من كل من حوله.
لم أعرف ماذا عليّ أن أفعل. لم أكن أصدق ما أرى. لقد سمعتُ أن ابنة عمي اصطحبته البارحة ليسبح وقد كان جيداً ومسروراً وصور الفرح تملأ فيس بوك. ما الذي حصل؟ بأيِّ شكلٍ يعمل هذا المرض؟
أناسٌ تأتي وأناسٌ تغادر، وعامر لا يعي ما حوله. يستيقظ كل ساعة لثوانٍ معدودة يتأوه من الألم ويشكو أن التمدد هكذا لا يريحه، ولا وضعية رأسه، ولا قدميه. يحاول أبواه أن يعدّلا من جلسته كي يريحاه، والطفل يتأوه.
يمر الطبيب والممرضات دورياً. نسألهم إن كان من الأفضل أن نغطيه أو لا إن شعر بالحر. يقول الطبيب: "اعملوا اللي بريحه وبس. خلوه يرتاح..".
أوصل الطبيب إذاً الرسالة.
لم أشعر يوماً بكل هذا العجز. ألجأ إلى النافذة وأتخبأ وراء الستار وأبكي وأتضرع إلى الله: "يا رب أنا بعرف إني مليانة ذنوب بس بترجاك، بترجاك يا الله تمنح هالولد كمان عمر، ولا تحرمنا وتحرم أهله منه، يا رب..".
استيقظ عامر لهنيهات، وكان الليل قد انتصف وأصبحنا قلةً حوله. اقتربتُ منه وقبّلتُ رأسه وقلت: "أنا بعرف إنك بتحب نادين - أختي - كتير. أنا إجيت زرتك اليوم، بس بكرة رح أخلّي نادين هي تجي تزورك مشان إنتَ تنبسط. تمام؟". هزّ رأسه بالإيجاب.
وكانت هذه المرة الأخيرة التي يتفاعل بها عامر معي.
غادرنا في الواحدة صباحاً. حال وصولي المنزل أخبرت نادين أختي أن عامر ينتظر قدومها غداً. أعرف أنه لم يكن يعي تماماً ما حوله، لكن أنا وعدته أن تذهب. وقد كانت أصلاً تنوي ذلك؛ فقد كانت ترافق عامر دائماً، وتلاعبه، وتدخل الفرحة إلى قلبه.
(8) - السبت، 14/3/2015: هل جربتَ أن تحضن طفلاً ميتاً؟ -
اتصل والدي بنا ظهراً يحثنا على الإسراع في القدوم للمركز لأن حالة عامر أصبحت حرجة: "يا بتلحقوا يا ما بتلحقوا".
اتجهنا أنا ووالدتي في عجالة للمركز. الأزمة كانت شديدة طوال الطريق. كان علينا أن نبتاع بعض الحاجيات في طريقنا وانتابني هاجسٌ غريب أننا قد لا نتمكن من رؤيته لو تأخرنا قليلاً. صرتُ أزاحم وأحاول الإسراع ما استطعت حتى نتمكن من الوصول قبل فوات الأوان.
دخلنا باتجاه كراج المركز ورنّ هاتف والدتي. كان والدي على الجهة الأخرى يسأل: "وين صرتوا؟". أخبرته أمي أننا ندخل إلى الكراج فقال: "خلص ما فيه داعي؛ عامر مات".
لم أعد قادرةً على قيادة السيارة ودخول الكراج. تركتُ المقود وعدَّلَت أمي غيار السيارة بسرعة وبدأتُ بالبكاء. حاولَتْ تهدئتي وأنزلتني من السيارة. قدم مشرف الكراج ليساعدني في النهوض، ذهبت أمي لتركن السيارة واتجهتُ هائمةً على وجهي صوب مدخل المركز وسط مواساة كل من صادفت على الطريق؛ فحتى وإن لم يعرفونني، من المؤكد أنهم يعرفون ما الذي قد يدفع أحداً للبكاء في مثل هذا المكان.
عجزتُ عن النهوض، لم تسعفني ركبتاي، وصلتُ إلى حيث كان عامر وكانت كل العائلة وأصدقائه هناك. الكل حاول منعي من الدخول، طلبوا مني أن لا أنهار أمام والديه. كان الموقف جدّ صعب.
اتجهتُ إلى غرفته، هالني ما رأيت. كان ممدداً ورقةً هامدة تماماً كما رأيته آخر مرة. يجلس والداه على طرفي الفراش يقرآن له القرآن. لبِكرهما، ولدهما الأكبر. ربط الله على قلبيهما في أشدّ اللحظات حلكة. أقبلتُ عليه، بكيتُ بحرقة، دنوتُ منه وقبّلتُه وحضنُته. هل جرّبتَ يوماً أن تحضن طفلاً ميتاً؟ شعرتُ به يحضنني، والله لقد حضنني. صرتُ أكلّمه وأعتذر منه: "حبيبي أنا آسفة إني ما لحّقتك، ما لحّقت أشوفك اليوم. أنا خليت نادين تجي تزورك امبارح زي ما وعدتك. يا حبيبي سامحني. الله يرحمك، الله يرحمك ويصبّرنا على بعدك".
جاء والداي وإخوتي لأخذي من عنده. لم أصدق ما أرى. لقد رأيته هكذا تماماً قبل يوم؛ فكيف غدا الآن جثةً هامدة؟ وكيف لوالديه أن يجلسا هكذا بكل رباطة الجأش تلك يقرآن القرآن لأكبر أولادهما وقد رحل من بين أيديهم؟
قرأتُ له الفاتحة وألقيتُ عليه نظرة الوداع الأخيرة راقداً في مركز الحسين، وغادرتُ إلى مراسم العزاء.
------------------------------------
عامر عاش بيننا، أنار حياتنا وأمدّنا جميعاً بأسباب القوة والأمل. وُلد في 22/11/2001، ورحل عن عالمنا في 14/3/2015.
عامر، لروحك الطاهرة كلّ الرحمة، ولنا من بعدك الصبر والسلوان.
0 comments :
Post a Comment