Friday, 18 May 2018

جَدّي، أين أنت

طيّب، لذكرى النكبة اليوم، أريدُ أن أنظرَ إلى هذا العالم عبرَ عدسةٍ ضيقةٍ جداً جداً، وبكلِّ ما في هذا الكون من أنانية، أريد أن أتذكرَ جَدّي.

في الحقيقة، لا يمكنني الحديث عن جَدّي. لم يخبرني أحد القصةَ كاملة. لم أقابل جَدّي يوماً. والدي بالكاد يعرفه؟

كان والدي في السابعة حين أعدّ جَدّي نفسَه وأسَرَّ لزوجته وأبنائه الخمسة أنّ ساعة الصفر قد لاحت بالاقتراب.

يخبرني أبي في صغري: "طلع معنا قبل ما يروح بكم يوم واشترى لنا البسكويت اللي بنحبه. يومها بوّسنا وراح. كنا متأكدين رح يرجع".

-- غادر منزله يومها، وما عاد. إلى اليوم لم يعد.

هل كان علينا أن نعيش هذا كله؟

أكثر ما يدهشني في فلسطين هو ذلك الأمل المعقود في جبين كل أبنائها. جَدّي ومن معه من فدائيين كانوا يتحدثون بصيغة المسافر المتيقّن من العودة: "بنخلّص العملية وبنرجّع البلاد وبنرجع لكم". كَحالِ كل من أُخرج من بيته زمن النكبة أو النكسة: "تاخذوش كل الغراض؛ كلهم كم يوم وراجعين"، وبنرجع..

-- سبعون سنة ولم نرجع.

جدي كان صبياً زمن النكبة، لا أراه في خيالي إلا بصورته هذه؛ شاباً يافعاً يرتدي بزّته العسكرية، يراقبُ من حوله يقلّبون كفوفهم حسرةً على أرضٍ ضيّعوها في طفولته وصباه، ويعقد العزم في سريرته على استرجاع كامل هذه الأرض، كاملها، بعد النكسة بعام.

في الشهر الثاني من عام ١٩٦٨، تقول القصة التي ما عرفنا تتمتّها يوماً، أنّ جدي كان بطلاً مغواراً، في أوائل عقده الرابع، قَبَّل زوجته وأطفاله وخرج ليقودَ طلعاتٍ فدائية مع رفاقه عند نهر الأردن؛ النهر الذي يفصلنا عنهم، النهر الذي بعده الحلم، وأرض الميعاد، وعبق الأجداد، ودرب الأنبياء، ورائحة البرتقال..

يقولون أعدّ العدّة، تأهّب، اصطدم الفريقان، تراجع من لاح له طيفُ حبيبته يغريه أنّها أعزُّ وأشهى من البلاد، وأقدَمَ من بقي يذكّر نفسه: "بنخلّص العملية وبنرجّع البلاد وبنرجع لكم".

يُقسمون أيماناً مغلّظة أنَّ جَدّي عَبَرَ النهر، وذهبَ بكلِّ جسده نحوهم، وغاب..

-- سنة ٢٠١٨: جَدّي، أين أنت؟

لماذا كان على جَدّتي أن تصدّق أنّ زوجها قضى شهيداً هكذا؟ لماذا كان عليها أن تُطرّز الأثواب لتُعيلَ أولادها المكلومين وتواجه مجتمعاً فلّاحاً لا يقبلُ سيدةً قويةً لا تُعدَم الحيلة مثلَها؟ لماذا كان على والدي وأعمامي وعمّاتي أن يعيشوا يتيمي الأب مُذ كان عمر أكبرهم ٨ سنوات؟ 

لماذا لم نعرف ما حلّ بكَ في الحقيقة أبداً، وكان علينا أن نكملَ القصة وحدَنا؟

- استشهد. حتماً دفنوه في مقابر الأرقام.
- لا، قبره موجود وعليه اسمه لكن لا يمكننا الوصول إليه.
- لا لا، أخذوه أسيراً ثم استشهد.
- لا لا لا، (مُتهكّماً)، غيّر هويته وتزوج واختفى في أحد البلدان!

-- استشهد. وكفى. 

كانت تلك الطّلعات التي قادها جَدّي مع رفاقه عند النهر شرارةَ انطلاق معركة الكرامة الخالدة في ٢١ آذار ١٩٦٨.

----------------

-- هل تستطيعُ العيش وأنتَ تسألُ نفسَك كلَّ يوم - منذ خمسين عاماً: أين ذهب والدي، ولماذا تركني أواجه الحياة وحدي هكذا؟
-- تُرى كم تأمّلَت جَدّتي أو والدي أن يكونَ كلُّ هذا وهماً وأن يعودَ جَدّي من مرقده ذاتَ صُبحٍ بعدَ الغياب؟
-- جَدّي الحبيب، هل ستعرفني ذات يوم - في عالمٍ آخر ربّما - وتكون فخوراً بلقائي كما أنك مَلَأتَني فخراً طوال حياتي؟
-- متى تنتهي النكبة؟

0 comments :

Post a Comment