النص التالي من كتابه "ذاكرة للنسيان"؛ وهو توصيفٌ رقيقٌ ودقيق لعلاقة درويش بالقهوة:
أُريد رائحة القهوة،
لا أُريد غير رائحة القهوة.
ولا أُريد من الأيام كلها غير رائحة القهوة،
رائحة القهوة لأتماسك، لأقف على قدميَ، لأتحول من زاحفٍ إلى كائن..
لأوقف حصتي من هذا الفجر على قدميها،
لنمضي معاً أنا وهذا النهار إلى الشارع بحثا عن مكان آخر.
كيف أذيع رائحة القهوة من خلاياي، وقذائف البحر تنقض على واجهة المطبخ المطل على البحر لتنشر رائحة البارود ومذاق العدم؟
صرت أقيس المسافة الزمنية بين قذيفتين.. ثانية واحدة.. ثانية واحدة أقصر من المسافة بين الشهيق والزفير، بين دقتي قلب
ثانية واحدة لا تكفي لأن أقف أمام البوتوغاز الملاصق لواجهة الزجاج المطلة على البحر
ثانية واحدة لا تكفي لأن أفتح زجاجة الماء، ثانية واحدة لا تكفي لأن أصب الماء في الغلاية
ثانية واحدة لا تكفي لإشعال عود الثقاب.. ولكن ثانية واحدة تكفي لأن أحترق
أقفلتُ مفتاح الراديو، لم أتساءل إن كان جدار الممر الضيق يقيني فعلاً مطر الصواريخ
ما يعنيني فعلاً هو أن ثمة جداراً يحجب الهواء المنصهر إلى معدن يُصيب اللحم البشري
بشكلٍ مباشر أو يتشظّى أو يخنق
وفي وسع ستارة داكنة - في مثل هذه الحالات أن توفر غطاء الأمان الوهمي
فالموت هو أن ترى الموت
أُريد رائحة القهوة.. أُريد خمس دقائق..
أُريد هدنةً لمدة خمس دقائق من أجل القهوة. لم يعد لي مطلبٌ شخصي غير إعداد فنجان القهوة.
بهذا الهوس حددتُ مهمتي وهدفي.
توثبت حواسي كلها في نداء واحد واشرأبت عطشى
نحو غايةٍ واحدة: القهوة.
والقهوة، لمن أدمنها مثلي، هي مفتاح النهار.
والقهوة، لمن يعرفها مثلي، هي أن تصنعها بيديك، لاأن تأتيك على طبق. لأن حامل الطبق هو حامل الكلام.
والقهوة الأولى يُفسدها الكلام لأنها عذراء الصباح الصامت.
الفجر.. أعني فجري نقيض الكلام. ورائحة القهوة تتشرب الأصوات، ولو كانت تحيةً رقيقة مثل "صباح الخير"، وتفسد…
لذا، فإن القهوة هي هذا الصمت الصباحي، الباكر، المتأني، والوحيد الذي تقف فيه، وحدك،
مع ماءٍ تختاره بكسل وعُزلة، في سلامٍ مبتكر مع النفس والأشياء،
وتسكبه على مهلٍ وعلى مهل في إناءٍ نحاسيٍّ صغير داكن وسري اللمعان أصفر مائل إلى البني،
ثم تضعه على نار خفيفة آه لو كانت نار الحطب...
ابتعد قليلاً عن النار الخفيفة
لتطلَّ على شارعٍ ينهض للبحث عن خبزه منذ تورط القرد بالنزول عن الشجرة وبالسير على قدمين،
شارع محمول على عربات الخضار والفواكه
وأصوات الباعة المتميزة بركاكة المدائح وتحويل السلعة إلى نعتٍ للسعر،
واستنشق هواءً قادماً من برودة الليل ثم عُد إلى النار الخفيفة - آه لو كانت نار الحطب - وراقب بمودة وتؤدة علاقة العنصرين:
النار التي تتلون بالأخضر والأزرق
والماء الذي يتجعد ويتنفس حبيبات صغيرة بيضاء تتحول إلى جلد ناعم،
ثم تكبر.. تكبر على مهل لتنتفخ فقاعات تتسع وتتسع بوتيرة أسرع وتنكسر!
تنتفخ وتنكسر عطشى لالتهام ملعقتين من السكر الخشن الذي ما إن يداخلها
حتى تهدأ بعد فحيحٍ شحيح،
لتعود بعد هنيهة إلى صراخ الدوائر المشرئبة، إلى مادة أخرى هي البُن الصارخ،
ديكاً من الرائحة والذكورة الشرقية...
أبعد الإناء عن النار الخفيفة لتجري حوار اليد الطاهرة من رائحة التبغ والحبر مع أولى إبداعاتها
مع إبداع أول سيحدد لك منذ هذه الهنيهة، مذاق نهارك وقوس حظك،
سيحدد لك إن كان عليك أن تعمل أم تجتنب العلاقة مع أحد طيلة هذا اليوم
فإن ما سينتج عن هذه الحركة الأولى وعن إيقاعاتها وعما يحركها من عالم النوم الناهض من اليوم السابق،
وعما يكشف من غموض نفسك سيكون هوية يومك الجديد.
لأن القهوة، فنجان القهوة الأول، هي مرآة اليد
واليد التي تصنع القهوة تشيع نوعية النفس التي تحركها
وهكذا فالقهوة هي القراءةُ العلنية لكتاب النفس المفتوح.. والساحرة الكاشفة لما يحمله النهار من أسرار
ما زال الفجر الرصاصي يتقدم من جهة البحر على أصوات لم أعرفها من قبل،
البحر برمته محشوّ في قذائف طائشة
البحر يبدل طبيعته البحرية ويتمعدن. أللموت كل هذه الأسماء؟
قلنا: سنخرج، فلماذا ينصب هذا المطر الأحمر الرمادي على من سيخرج وعلى من سيبقى من بشرٍ وشجرٍ وحجر؟
قلنا: سنخرج
قالوا: من البحر؟
قلنا: من البحر، فلماذا يسلحون الموج والزبد بهذه المدافع؟ ألكي نعالج الخطى نحو البحر؟
عليهم أن يفكوا الحصار عن البحر أولاً..
وعليهم أن يخلوا الطريق الأخير لخيط دمنـا الأخير..
وما دام الأمر كذلك، وهو كذلك.. فلن نخرج.
إذن، سأُعدّ القهـوة..